وما ينبت النرجس إلا من البصل...

January 3rd, 2021 وما ينبت النرجس إلا من البصل...

كان يومًا هادئًا في منتصف شهر يناير. كان التونسيون حول العالم ملتصقين بشاشة الجزيرة ويبحرون على الفيسبوك، المصادرين الموثوقين الوحيدين للمعلومات خلال ثورة 2010. كان الجو مُعتمًا بالخارج وكان هادئًا جدًا بسبب فرض حظر التجول. تم إغلاق المطار، لكن هناك شائعات على وسائل التواصل الاجتماعي، بأن الجيش سمح لطائرة بالإقلاع تحمل بن علي وعائلته.

في تلك الليلة انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي مقطع فيديو صوّره أحد الهواة عبر الهاتف. كان الأمر سرياليًا، فقد تم تصوير عبد الناصر العويني، وهو محام لم يكن معروفًا بالنسبة لأغلب التونسيين كثيرًا قبل تلك اللحظة السحرية، وهو يسير بمفرده، على طول شارع الحبيب بورقيبة، وهو ينادي بأعلى صوته يخاطب التونسيين والعالم: لقد هرب بن علي، المجد للشهداء ... التوانسة أحرار... لن نخاف بعد هذا اليوم ... الحكم للشعب، المجد للشعب. يا مضطهدين، لا ظلم بعد اليوم ... يا أمة عظيمة، أنت حرة ...بن علي هرب...

مشهد عبد الناصر العويني، ينادي بأعلى صوته "بن علي هرب" أمام وزارة الداخلية مباشرة، دون أن يوقفه أحد، كان يعني بداية دولة جديدة لم نكن نتصورها في أكثر أحلامنا تفاؤُلاً... قبل 14 يناير 2010، كانت المهمة الوحيدة لوزارة الداخلية هي: حماية النظام منا. بين عشية وضحاها جعلنا عبد الناصر ندرك أن وزارة الداخلية تحمي تونس والتونسيين ... حلم يتحقق، مخيف، مثير، ساحر. كنا فخورين ومرعوبين للغاية من بلد تحول لوطن غير معروف.

 

اليوم، بعد 10 سنوات، مازال بلدنا الصغير الشجاع محافظاً على ديمقراطيته الجديدة ... حتى الآن ... لكن في الحياة كل شيء له ثمنه، قطعنا شوطا طويلا وننسى دائما أن التغيير كان عظيماً.

 

قبل الثورة، كان لدينا برلمان بنفسجي، اللون المفضل لبن علي، ولون حزبه. كان لدينا برلمان هادئ، وأسواق صاخبة مزدحمة. بعد الثورة، يبدو أنهم تبادلوا الادوار. الآن الأسواق حزينة وهادئة بسبب الركود الاقتصادي، وأصبح البرلمان مساحة لتجارة التشريعات والقوانين، مكانا صاخباً، مزركشًا بكل ألوان قوس قزح.

قبل الثورة، قام السياسيون المعروفون، الذين تم اختيارهم بعناية، بإدارة حملات انتخابية، بدت أشبه بمهرجانات، لا يتنافسون مع أحد ويفوزون دائمًا. بعد الثورة، لدينا سياسيون مبدعون، من مئات الأحزاب السياسية، يتنافسون مثل الأسود على وليمة. الآن لدينا حرية الخيار أخيرًا، التصويت بحرية على قوائم انتخابية لمواطنين مجهولين، قادمين من جميع مناحي الحياة ومن جميع أنحاء البلاد، الذين لم يجدوا صوتهم فحسب، بل زئيرهم، ونحن نصوت لهم، لمنحهم الفرصة لتعلم السياسة بالممارسة فينا.

قبل الثورة، كان العديد من الشباب يعملون كسائقين، إما يقودون بلا كلل أطنانًا من الصادرات الغذائية إلى ليبيا أو يقودون حافلات سعيدة مليئة بالسياح. الآن فقد معظمهم وظائفهم، فركوب القوارب المزدحمة، وفضلوا المخاطرة بحياتهم، لعبور البحر الأبيض المتوسط ​​ والبحث عن رزق لعائلاتهم، أو لتكوين أسرة ... لا يمكن إلقاء اللوم على سائق شاحنة... فمنتخبون في البلديات ايضاً، سافروا لتمثيل مدنهم، ثم لم يعودوا أبدًا، واختاروا الذوبان في أوروبا، بفضل تأشيرات شنغن العظيمة.

قبل الثورة، كنت قد صممت مرة برنامجًا صيفيًا لشباب مدينتي بني خلاد، من خلال دعوة متطوعين من أوروبا، التقيت بهم عبر الإنترنت، والذين كانوا على استعداد لتقديم دورات صيفية مجانًا. كان الحصول على الموافقة على المشروع أمرًا معقدًا، حتى أنه بدا لي أنه من الخطر التحدث عن الفكرة، واضطررت للتخلي عنه. كل مسؤول حكومي حدثته عن الفكرة، في ذلك الوقت، أحبطني تمامًا، قائلاً إنها ستكون فكرة سيئة للغاية، لأننا لا نعرف الأجندات الخفية للمتطوعين الأجانب، خاصة في العمل مع الشباب ...

في الواقع، أخطر أجندة خفية يمكن أن تلوث عقول الشباب هي أفكار ديمقراطية، لا سمح الله!

قبل الثورة، لم يكن يُسمح لطلاب الجامعات بالتجمع خارج الحرم الجامعي. اختفى بعض طلاب الجامعة عندما أطلقوا عبارات مناهضة للنظام، ليعودوا بعد فترة، أكثر نحافة واهدأ من قبل. يمكن للشباب فقط التجمع مع العائلة وكانوا تقريباً غير موجودين في المجتمع. بعد الثورة، طلاب الجامعات، يطلقون وينضمون إلى المنظمات غير الحكومية التي تعمل على كل أنواع القضايا، ويسرني دوما أن أتلقى دعوة كمتحدثة، بين الحين والآخر، من قبل طلاب الجامعة، الذين نظموا فعاليات، بحرية في الحرم الجامعي وخارجه … حلم تحقق!

الشباب اليوم أحرار، وفرص المنح الدراسية مسموحه، من كل انحاء كوكب الأرض. التمويل الأجنبي لدعم إبداع الشباب مسموح، ولا أحد يخشى أي "أجندات خفية". اليوم يوجد الكثير من مبادرات تطوير الشركات الناشئة، تدفع الشباب إلى تفجير طاقاتهم. وهنالك منظمات غير الحكومية وطنية وعالمية، في كل ركن من أركان الدولة، تنفذ برامج لدمج الشباب، تحسين المشاركة المدنية، والرقمية، السياسية، تمكين اقتصادي... والقائمة طويلة.

يجادل البعض اليوم بأن الثورة فكرة سيئة، وأن ثقافتنا وديمقراطيتنا لا يختلطان. أعتقد أن القِدر كان يغلي غليان كبير، وكان عليه أن ينسكب أو ينفجر؛ نحن محظوظون لأنه انسكب ... نعم، تسبب في فوضى، لكنها فوضى في الاتجاه الصحيح... إنها فوضى تحتاج إلى وقت للتنظيف.. وعلينا مواصلة التنظيف حتى لا نعود للغليان!

"هرب بن علي" وتركنا منذ 10 سنوات. اليوم، الأشخاص في سن الثلاثينيات والعشرينيات من العمر وأصغرهم لا يخشون التعبير عن آرائهم، والتواصل مع العالم الخارجي، ولا يمكنهم حتى تخيل تونس بدون ديمقراطية، بدون أحزاب بألوان قوس قزح، أو حقوق الإنسان، او مجتمع مدني ...! اليوم نحتاج إلى تحضير آليات لإعطاء الشباب المقاعد الأمامية لقيادتنا نحو التحولات القطاعية التي تشتد الحاجة إليها. الى ان يحصل ذلك، لدينا طريق وعر، حتى يمنحهم أولئك غير قادرين على الخروج من الماضي بعض الفرص.

1 comment

Post A Comment